أســـــــــرار الغربة
تجوب أروقةَ الروحِ، كالتوهج الذي يتلاشى تحت أنامل المسافة، إنها نزوة المتناقضات؛ حيث يتجاور القرب والبعد، وتتداخل الأصوات والصمت في حالات غامضة، كنقشة تضجُّ بالأشكال المتلاحقة، تكشف عن ألوانها وتلمح لأسرارها على وجه الحياة؛ إنها الغربة.
في متاهة الغربة، يلتقط الأنفاس جامع الأحلام والأشواق، يتراقص العالم في حلقات متعرجة من حنين اللقاء وقسوة الفراق، الغربة ليست مجرد غريزة بدنية تعصف بالمساحات البعيدة؛ بل هي نسيم يعبق بالألم والترقب، يهمس للروح بالوحدة والوجود.
تتناغم الموسيقى الصامتة في أذني، تسربل الألحان الآسرة بين أنامل الهواء، أحسُّ بدقات قلبي وهي تتلاشى تحت زخات المطر المتلألئة، وألمس نبضات الكون وهي تنبض في عروقي، أيها الغريب الأعزل، أين تستقر؟ أي شوق يستدرجك إلى الأبعد؟
في العيون الغريبة، يُعشَق الضياء والسحر، إنها رؤية تنزع الأقنعة، وتكشف عن أحاسيس مكبوتة، تصوغ عالم من الوجود، وتنسج ألوانًا جديدة من الشغف والانتماء، في هذه العيون أجد قصصًا مدفونة، وأحلامًا متناثرة، تراوح بين الواقع والخيال.
يشتد الحنين في قلبي، وأنا أتجول في المدينة الغريبة؛ حيث الأصوات المتعددة تتداخل وتختلط في عزف متناغم، أعيش بين أزقة تلك المدينة، وكأني شخصية في رواية لم تكتمل بعد، أنا المشتت والمتناقض، بين تصاعد الرغبة في الانتماء وضرورة الاستقلال.
الغربة لا تعني بالضرورة الانعزال؛ بل هي فرصة لاستكشاف عوالم جديدة وتجارب مختلفة. في طريقي أصطحب معي حنين الماضي وشوق المستقبل، أحلم بقاربٍ مجهول يأخذني بعيدًا إلى أفقٍ لم أشهده من قبل. وبينما أنا هنا، أجدني هناك أيضًا، في ذاكرة وطن بعيد تحتضنني وتستدعيني، تنادي بألحان الأرض ورائحة التراب.
أنا الغريب ولكنني أجد في هذه الغربة حبًّا غامرًا للإنسانية، وتعاطفًا عميقًا مع كل قصة تحملها أعين الغرباء.
في عالم الغربة، أكتب قصتي بحبرٍ لا يعرف الحدود وألوانٍ لا تعترف بالقيود، أنا الكائن الذي يجمع بين الثقافات ويمزج بين اللغات، أروي قصة الغربة بألوان الشوق وأنغام الحنين.فالغربة ليست مجرد حالة تجربة فردية؛ بل هي حالة إنسانية تعانيها العقول والقلوب في كل أرجاء العالم.